الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمَدْلُولِ؛ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ: أَبُو عُبَيْدَةَ "كِتَابَ الْمَجَازِ"، وَأَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ " يَاقُوتَةَ الصِّرَاطِ "، وَمِنْ أَشْهَرِهَا كِتَابُ ابْنِ عَزِيزٍ، وَ " الْغَرِيبَيْنِ " لِلْهَرَوِيِّ، وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ " الْمُفْرَدَاتِ " لِلرَّاغِبِ. وَهُوَ يَتَصَيَّدُ الْمَعَانِيَ مِنَ السِّيَاقِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ خَاصَّةٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: " وَحَيْثُ رَأَيْتَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ: " قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي "، فَالْمُرَادُ بِهِ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ؛ كَالزَّجَّاجِ وَمَنْ قَبْلَهُ، وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي: الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، قَالُوا: كَذَا ". انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ الْكَاشِفُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ اللُّغَةِ: اسْمًا وَفِعْلًا وَحَرْفًا؛ فَالْحُرُوفُ لِقِلَّتِهَا تَكَلَّمَ النُّحَاةُ عَلَى مَعَانِيهَا؛ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ، وَأَكْثَرُ الْمَوْضُوعَاتِ فِي عِلْمِ اللُّغَةِ كِتَابُ ابْنِ سَيِّدٍ، فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي مِائَةِ سِفْرٍ؛ بَدَأَ بِالْفَلَكِ وَخَتَمَ بِالذَّرَّةِ. وَمِنَ الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ كِتَابُ الْأَزْهَرِيِّ، وَ " الْمُوعِبُ " لِابْنِ التَّيَّانِيِّ وَ " الْمُحْكَمُ " لِابْنِ سِيدَهْ، وَكِتَابُ " الْجَامِعِ " لِلْقَزَّازِ، وَ " الصِّحَاحُ " لِلْجَوْهَرِيِّ، وَ " الْبَارِعُ " لِأَبِي عَلِيٍّ الْقَالِي، وَ " مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ " لِلصَّاغَانِيِّ. وَمِنَ الْمَوْضُوعَاتِ فِي الْأَفْعَالِ كِتَابُ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ، وَكِتَابُ ابْنِ طَرِيفٍ، وَكِتَابُ السَّرَقُسْطِيِّ الْمَنْبُوزِ بِالْحِمَارِ، وَمِنْ أَجْمَعِهَا كِتَابُ ابْنِ الْقَطَّاعِ. وَمَعْرِفَةُ هَذَا الْفَنِّ لِلْمُفَسِّرِ ضَرُورِيٌّ، وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ يَحْيَى بْنُ نَضْلَةَ الْمَدِينِيُّ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: " لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يُفَسِّرُ كِتَابَ اللَّهِ غَيْرِ عَالِمٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ؛ إِلَّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْعَرَبِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَأَلْتُمُونِي عَنْ غَرِيبِ اللُّغَةِ فَالْتَمِسُوهُ فِي الشِّعْرِ؛ فَإِنَّ الشِّعْرَ دِيوَانُ الْعَرَبِ. وَعَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (الِانْشِقَاقِ: 17) قَالَ: " مَا جَمَعَ "، وَأَنْشَدَ: إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا حَقَائِقَا *** مُسْتَوْسَقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا وَقَالَ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (الْأَعْرَافِ: 89) حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنَ الْحَمْيَرِيَّ وَهِيَ تَقُولُ: أُفَاتِحُكَ، يَعْنِي أُقَاضِيكَ، وَفِي سُورَةِ " السَّجْدَةِ ": {مَتَّى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الْآيَةَ: 28) يَعْنِي مَتَى هَذَا الْقَضَاءُ؟ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (سَبَأٍ: 26)، وَقَوْلُهُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (الْفَتْحِ: 1) أَيْ: قَضَاءً مُبِينًا. وَقَالَ أَيْضًا: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا " {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} " حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، يَعْنِي ابْتَدَأْتُهَا. وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالَ: مَاتَ، وَتَرَكَ أَرْبَعَةً مِنَ الْوَلَدِ، وَثَلَاثَةً مِنَ الْوَرَاءِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ} (هُودٍ: 71) قَالَ: وَلَدُ الْوَلَدِ. وَمَسَائِلُ نَافِعٍ لَهُ عَنْ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاسْتِشْهَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كُلِّ جَوَابٍ بَيْتٌ، ذَكَرَهَا [ابْنُ] الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ " الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ " بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى النَّحْوِيِّينَ احْتِجَاجَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ بِالشِّعْرِ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الشِّعْرَ أَصْلًا لِلْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّحْوِيُّونَ أَنْ يُثْبِتُوا الْحَرْفَ الْغَرِيبَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالشِّعْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (يُوسُفَ: 2)، وَقَالَ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشُّعَرَاءِ: 195). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ؛ فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْهِمُ الْحَرْفُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلُغَتِهِمْ رَجَعُوا إِلَى دِيوَانِهِمْ فَالْتَمَسُوا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ ". ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا تَضَمَّنَهُ أَلْفَاظُهَا يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ كَفَى فِيهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيضَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَتَكْثُرَ شَوَاهِدُهُ مِنَ الشِّعْرِ. وَيَنْبَغِي الْعِنَايَةُ بِتَدَبُّرِ الْأَلْفَاظِ كَيْ لَا يَقَعَ الْخَطَأُ، كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكِبَارِ، فَرَوَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (الْمَاعُونَ: 5) فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْ صِلَاتِهِ وَلَا يَدْرِي عَنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَهْ يَا أَبَا الْعَالِيَةِ، لَيْسَ هَكَذَا؛ بَلِ الَّذِينَ سَهَوْا عَنْ مِيقَاتِهِمْ حَتَّى تَفُوتَهُمْ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: عَنْ صَلَاتِهِمْ؟! فَلَمَّا لَمْ يَتَدَبَّرْ أَبُو الْعَالِيَةِ حَرْفَ " فِي " وَ " عَنْ " تَنَبَّهَ لَهُ الْحَسَنُ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا فَهِمَ أَبُو الْعَالِيَةِ لَقَالَ: " فِي صَلَاتِهِمْ "، فَلَمَّا قَالَ: " عَنْ صَلَاتِهِمْ " دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّهَابُ عَنِ الْوَقْتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} (الزُّخْرُفِ: 36) أَنَّهُ مِنْ عَشَوْتُ أَعْشُو عَشْوًا: إِذَا نَظَرْتُ، وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ يُعْرِضْ، وَإِنَّمَا غَلِطَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَشَوْتُ إِلَى الشَّيْءِ، وَعَشَوْتُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أَمِّ مُوسَى فَارِغًا} (الْقَصَصِ: 10) قَالَ: فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ؛ لِعِلْمِهَا أَنَّهُ لَمْ يَغْرَقْ، وَمِنْهُ: " دَمٌ فَرَاغٌ "، أَيْ: لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: أَخْطَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْمَعْنَى؛ لَوْ كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ عَلَيْهِ لَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (الْقَصَصِ: 10)؛ لِأَنَّهَا كَادَتْ تُبْدِي بِهِ. وَهَذَا الْبَابُ عَظِيمُ الْخَطَرِ؛ وَمِنْ هُنَا تَهَيَّبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ، وَتَرَكُوا الْقَوْلَ فِيهِ؛ حَذَرًا أَنْ يَزِلُّوا فَيَذْهَبُوا عَنِ الْمُرَادِ، وَإِنْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِاللِّسَانِ فُقَهَاءَ فِي الدِّينِ، وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ- وَهُوَ إِمَامُ اللُّغَةِ- لَا يُفَسِّرُ شَيْئًا مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَغَفَهَا حُبًّا} (يُوسُفَ: 30) فَسَكَتَ وَقَالَ: هَذَا فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلًا لِبَعْضِ الْعَرَبِ فِي جَارِيَةٍ لِقَوْمٍ أَرَادُوا بَيْعَهَا: أَتَبِيعُونَهَا وَهِيَ لَكُمْ شَغَافٌ؟ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا. وَلِهَذَا حَثَّ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى تَعَلُّمِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ، وَطَلَبِ مَعَانِي الْغَرِيبِ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الْعَالِمِ بِحَقَائِقِ اللُّغَةِ وَمَوْضُوعَاتِهَا تَفْسِيرُ شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَا يَكْفِي فِي حَقِّهِ تَعَلُّمُ الْيَسِيرِ مِنْهَا، فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ وَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْآخَرُ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مِنْ أَفْصَحِ قُرَيْشٍ، سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنِ " الْأَبِّ " (عَبَسَ: 31) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كَلَامِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ وَقَرَأَ عُمَرُ سُورَةَ " عَبَسَ "، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَبَّ قَالَ: الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: لَعَمْرُكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آلِ عِمْرَانَ: 7)، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا كُلِّفْنَا، أَوْ مَا أُمِرْنَا بِهَذَا. وَمَا ذَاكَ بِجَهْلٍ مِنْهُمَا لِمَعْنَى " الْأَبِّ "، وَإِنَّمَا يُحْتَمَلُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ " الْأَبَّ " مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي لُغَتِهِمَا، أَوْ فِي لُغَاتٍ، فَخَشِيَا إِنْ فَسَّرَاهُ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْأَبِّ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: مَا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ، وَأَمَّا مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّ فَالْحَصِيدُ، وَالثَّانِي: التِّبْنُ خَاصَّةً، وَالثَّالِثُ: كُلُّ مَا نَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالرَّابِعُ: مَا سِوَى الْفَاكِهَةِ، وَالْخَامِسُ: الثِّمَارُ الرَّطْبَةُ، وَفِيهِ بَعْدٌ؛ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَدْخُلُ فِي الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ، وَلَا يُقَالُ: أُفْرِدَتْ لِلتَّفْصِيلِ؛ إِذْ لَوْ أُرِيدُ ذَلِكَ لَتَأَخَّرَ ذِكْرُهَا نَحْوَ: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرَّحْمَنِ: 68)، وَالسَّادِسُ أَنَّ رَطْبَ الثِّمَارِ هُوَ الْفَاكِهَةُ، وَيَابِسَهَا هُوَ الْأَبُّ، وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ لِلْأَنْعَامِ كَالْفَاكِهَةِ لِلنَّاسِ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ عُمَرَ غَيْرَ مَا سَبَقَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ وَإِنْ شُهِرَ، كَمَا خَفِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى " {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} ". وَالثَّانِي: أَرَادَ تَخْوِيفَ غَيْرِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلتَّفْسِيرِ بِمَا لَا يَعْلَمُ، كَمَا كَانَ يَقُولُ: أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا شَرِيكُكُمْ. يُرِيدُ الِاحْتِرَازَ، فَإِنَّ مَنِ احْتَرَزَ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ.
وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الْكَلِمَةَ بِبِنْيَتِهَا، وَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَعْلُ الْكَلِمَةِ عَلَى صِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَعَانِي، وَيَنْحَصِرُ فِي التَّصْغِيرِ وَالتَّكْبِيرِ، وَالْمَصْدَرِ، وَاسْمَيِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ. وَالثَّانِي: تَغْيِيرُ الْكَلِمَةِ لِمَعْنًى طَارِئٍ عَلَيْهَا، وَيَنْحَصِرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْحَذْفِ، وَالْإِبْدَالِ وَالْقَلْبِ وَالنَّقْلِ، وَالْإِدْغَامِ. وَفَائِدَةُ التَّصْرِيفِ: حُصُولُ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَّسِعَةِ الْمُتَشَبِّعَةِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ؛ فَالْعِلْمُ بِهِ أَهَمُّ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّحْوِ فِي تَعَرُّفِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيفَ نَظَرٌ فِي ذَاتِ الْكَلِمَةِ، وَالنَّحْوَ نَظَرٌ فِي عَوَارِضِهَا، وَهُوَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُفَسِّرُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: " مَنْ فَاتَهُ عِلْمُهُ فَاتَهُ الْمُعْظَمُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ " وَجَدَ " كَلِمَةٌ مُبْهَمَةٌ، فَإِذَا صَرَّفْنَاهَا اتَّضَحَتْ، فَقُلْنَا فِي الْمَالِ: " وُجْدًا "، وَفِي الضَّالَّةِ: " وِجْدَانًا "، وَفِي الْغَضَبِ: " مَوْجِدَةً "، وَفِي الْحُزْنِ: " وَجْدًا "، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (الْجِنِّ: 15)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الْحُجُرَاتِ: 9)؛ فَانْظُرْ كَيْفَ تَحَوَّلَ الْمَعْنَى بِالتَّصْرِيفِ مِنَ الْجَوْرِ إِلَى الْعَدْلِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ؛ فَيَقُولُونَ لِلطَّرِيقِ فِي الرَّمْلِ: " خِبَّةٌ "، وَلِلْأَرْضِ الْمُخْصِبَةِ وَالْمُجْدِبَةِ: " خُبَّةٌ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ أَنَّ مَادَّةَ " دَكَرَ " بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مُهْمَلَةٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ، فَكَتَبَ التَّاجُ الْكِنْدِيُّ عَلَى الطُّرَّةِ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُهْمَلٌ: مُسْتَعْمَلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (يُوسُفَ: 45)، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (الْقَمَرِ: 15)، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ سَهْوٌ أَوْجَبَهُ الْغَفْلَةُ عَنْ قَاعِدَةِ التَّصْرِيفِ، فَإِنَّ الدَّالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَدَلٌ مِنَ الذَّالِ؛ لِأَنَّ ادَّكَرَ أَصْلُهُ اذْتَكَرَ افْتَعَلَ مِنَ الذِّكْرِ، وَكَذَلِكَ مُدَّكِرٌ أَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ مُفْتَعِلٌ مِنَ الذِّكْرِ أَيْضًا، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ ذَالًا وَالذَّالُ كَذَلِكَ، وَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، فَصَارَ اللَّفْظُ بِهِمَا كَمَا تَرَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَّلَ لَهُمْ} (مُحَمَّدٍ: 25): " سَهَّلَ لَهُمْ رُكُوبَ الْمَعَاصِي " مِنَ السَّوَلِ وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ، وَقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ جَمِيعًا " يُعَرِّضُ بِابْنِ السِّكِّيتِ. وَقَالَ أَيْضًا: " مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ " الْإِمَامَ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (الْإِسْرَاءِ: 71) جَمْعُ " أُمٍّ "، وَأَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ دُونَ آبَائِهِمْ؛ لِئَلَّا يَفْتَضِحَ أَوْلَادُ الزِّنَا، قَالَ: وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّهُمَا أَبْدَعُ، أَصِحَّةُ لَفْظَةِ " أُمَّهْ " أَمْ بَهَاءُ حِكْمَتِهِ. يَعْنِي أَنَّ " أُمًّا " لَا يُجْمَعُ عَلَى " إِمَامٍ "، هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الصِّنَاعَةَ وَلَا لُغَةَ الْعَرَبِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} (الْبَقَرَةِ: 72) هُوَ " تَفَاعَلْتُمْ " فَأُرِيدَ مِنْهُ الْإِدْغَامُ تَخْفِيفًا، وَأُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ دَالٌ فَسُكِّنَ لِلْإِدْغَامِ، فَاجْتُلِبَتْ لَهَا أَلِفُ الْوَصْلِ فَحَصَلَ عَلَى " افَّاعَلْتُمْ ". وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: ادَّارَأْتُمْ " افْتَعَلْتُمْ "، وَغَلِطَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَوَّلًا: أَنَّ ادَّارَأْتُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَحْرُفٍ، وَافْتَعَلْتُمْ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَلِي أَلِفَ الْوَصْلِ تَاءٌ فَجَعَلَهَا دَالًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِي يَلِي الثَّانِيَ دَالٌ فَجَعَلَهَا تَاءً. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْفِعْلَ الصَّحِيحَ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ مَا بَعْدَ تَاءِ الِافْتِعَالِ مِنْهُ إِلَّا مُتَحَرِّكًا، وَقَدْ جَعَلَهُ هَذَا سَاكِنًا. وَالْخَامِسُ: أَنَّ هَاهُنَا قَدْ دَخَلَ بَيْنَ التَّاءِ وَالدَّالِ زَائِدٌ، وَفِي افْتَعَلَتْ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ أَنْزَلَ الْأَلِفَ مَنْزِلَةَ الْعَيْنِ وَلَيْسَتْ بِعَيْنٍ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ تَاءَ افْتَعَلَ قَبْلَهُ حَرْفَانِ وَبَعْدَهُ حَرْفَانِ، وَ ادَّارَأْتُمْ بَعْدَهَا ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: مَنْ قَالَ: " اتَّخَذْتُ " افْتَعَلْتُ مِنَ الْأَخْذِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى فَسَادِهِ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ تَاءً، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ؛ وَقَدِ انْتَدَبَ النَّاسُ لِتَأْلِيفِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَوْضَحِهَا كِتَابُ " الْحَوْفِيِّ "، وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ " الْمُشْكِلُ "، وَكِتَابُ أَبِي الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيِّ، وَكِتَابُ الْمُنْتَجِبِ الْهَمَذَانِيِّ، وَكِتَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَابْنِ عَطِيَّةَ، وَتَلَاهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ. قَالُوا: وَالْإِعْرَابُ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الْمَعَانِيَ، وَيُوقِفُ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِكَ: " مَا أَحْسَنَ زَيْدًا، وَلَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَُِ اللَّبَنَ، وَكَذَلِكَ فَرَّقُوا بِالْحَرَكَاتِ وَغَيْرِهَا بَيْنَ الْمَعَانِي فَقَالُوا: " مِفْتَحٌ " لِلْآلَةِ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا، وَ " مَفْتَحٌ " لِمَوْضِعِ الْفَتْحِ، وَ " مِقَصٌّ " لِلْآلَةِ، وَ " مَقَصٌّ " لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْقَصُّ، وَيَقُولُونَ: امْرَأَةٌ طَاهِرٌ مِنَ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُشَارِكُهَا فِي الطَّهَارَةِ.
وَعَلَى النَّاظِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْكَاشِفِ عَنْ أَسْرَارِهِ النَّظَرُ فِي هَيْئَةِ الْكَلِمَةِ وَصِيغَتِهَا وَمَحَلِّهَا؛ كَكَوْنِهَا مُبْتَدَأً أَوْ خَبَرًا أَوْ فَاعِلَةً أَوْ مَفْعُولَةً، أَوْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ أَوْ فِي جَوَابٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْرِيفٍ أَوْ تَنْكِيرٍ أَوْ جَمْعِ قِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا- وَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ-: أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى مَا يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مُرَكَّبًا قَبْلَ الْإِعْرَابِ؛ فَإِنَّهُ فَرْعُ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْرَابُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ فِي كَلَالَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} (النِّسَاءِ: 12) أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُرَادِ بِالْكَلَالَةِ، هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ أَوْ لِلْمَالِ، فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلْمَيِّتِ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ، وَإِنَّ " كَانَ " تَامَّةٌ لَا خَبَرَ لَهَا بِمَعْنَى وَجَدَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَالْكَلَالَةُ خَبَرَهَا، وَجَازَ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ النَّكِرَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: يُورَثُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجُهُ، وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْوَرَثَةِ فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُورَثُ لَكِنْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَا كَلَالَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَـ " كَانَ " نَاقِصَةٌ، وَيُورَثُ خَبَرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، فَـ " يُورَثُ " صِفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، فَتَكُونُ صِفَتُهُ، وَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لِلْمَالِ فَهِيَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِـ " يُورَثُ " كَمَا تَقُولُ: وَرَّثْتُ زَيْدًا مَالًا. وَقِيلَ: تَمْيِيزٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَنْ جَعَلَ الْـ (كَلَالَةَ) الْوَارِثَةَ فَهِيَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: وَارِثُهُ كَلَالَةً، أَيْ: يُورَثُ بِالْوِرَاثَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْكَلَالَةَ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى قِرَاءَةِ يُورَثُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ يُورِثُ بِكَسْرِهَا مُخَفَّفَةً أَوْ مُشَدَّدَةً، فَالْكَلَالَةُ هِيَ الْوَرَثَةُ أَوِ الْمَالُ. وَمِنْ ذَلِكَ تُقَاةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (آلِ عِمْرَانَ: 28) فِي نَصْبِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى تَفْسِيرِهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ فَهِيَ مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (نُوحٍ: 17)، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ: أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا لِـ " رَامٍ " وَ " رُمَاةٍ " فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِعْرَابُ أَحْوَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {غُثَاءً أَحْوَى} (الْأَعْلَى: 5)، وَفِيهِ قَوْلَانِ مُتَضَادَّانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَفَافِ وَالْيُبْسِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْأَسْوَدُ مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ، كَمَا فُسِّرَ: {مُدْهَامَّتَانِ} (الرَّحْمَنِ: 64) فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ صِفَةٌ لِـ غُثَاءً، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَرْعَى، وَأُخِّرَ لِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (الْمُرْسَلَاتِ: 25 وَ26)، فَإِنَّهُ قِيلَ: الْكِفَاتُ الْأَوْعِيَةُ، وَمُفْرَدُهَا " كَفْتٌ "، وَالْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ كِنَايَةٌ عَمَّا نَبَتَ وَمَا لَا يَنْبُتُ، وَقِيلَ: الْكُفَاتُ مَصْدَرُ كَفَتَهُ إِذَا ضَمَّهُ وَجَمَعَهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} صِفَةٌ لِكِفَاتًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْعِيَةٌ حَيَّةٌ وَمَيِّتَةٌ، أَوْ حَالَانِ؛ وَعَلَى الثَّانِي فَهُمَا مَفْعُولَانِ لِمَحْذُوفٍ، وَدَلَّ عَلَيْهِ " كِفَاتًا " أَيْ: يَجْمَعُ " أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (الْحِجْرِ: 87)، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ فَـ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ، وَ (الْقُرْآنَ) حِينَئِذٍ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ وَإِنْ كَانَتِ الْفَاتِحَةُ فَـ (مِنْ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيْ: سَبْعًا هِيَ الْمَثَانِي.
تنبيه: [الفرق بين تفسير المعنى وتفسير الإعراب] قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ: "هَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى"، وَ"هَذَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ"، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى لَا يَضُرُّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} (171) " تَقْدِيرُهُ: مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ، وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ ". وَاخْتَلَفَ الشَّارِحُونَ فِي فَهْمِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ؛ فَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وَقِيلَ: تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفَانِ: حَذْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ حَذْفُ دَاعِيهِمْ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الثَّانِي، وَحَذْفٌ مِنَ الثَّانِي، وَهُوَ حَذْفُ الْمَنْعُوقِ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْأَوَّلِ؛ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ.
فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْأَفْصَحِ مِنْ لُغَةِ قُرَيْشٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ ": الْقُرْآنُ لَا يُعْمَلُ فِيهِ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ فَاشٍ دَائِرٌ عَلَى أَلْسِنَةِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، دُونَ الشَّاذِّ النَّادِرِ الَّذِي لَا يُعْثَرُ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ أَوْ مَوْضِعَيْنِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ غَلَطُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُعْرِبِينَ حِينَ جَعَلُوا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْجِوَارِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 6) فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ ضَرُورَةٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْفَصِيحُ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا أُمِنَ اللَّبْسُ، وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ مَعَ عَدَمِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ هَاهُنَا مَوْجُودٌ، وَأَيْضًا فَنَحْنُ فِي غِنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ الْعَرَبَ يَقْرُبُ عِنْدَهَا الْمَسْحُ مَعَ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُمَا أَسَاسُ الْمَاءِ، فَلَمَّا تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى حَصَلَ الْعَطْفُ كَقَوْلِهِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا *** وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمُشَارَكَةُ فِي الْمَعْنَى حَسُنَ الْعَطْفُ وَإِلَّا امْتَنَعَ؛ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ بَلْ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ صَرْفِ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا} (الْإِنْسَانِ: 4) فَإِنَّمَا أُجِيزَ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْجِوَارِ خُرُوجٌ عَنِ الْأَصْلِ، فَافْتَرَقَا.
وَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ؛ كَقَوْلِهِمْ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَنَحْوِهِ، مُرَادُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَاهُ بِحَذْفِهَا لَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَمَلُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ. وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الزَّائِدِ فِي الْقُرْآنِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ الْقَوْمِ وَمُتَعَارَفِهِمْ، وَهُوَ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِإِزَاءِ الْحَذْفِ، هَذَا لِلِاخْتِصَارِ وَالتَّخْفِيفِ، وَهَذَا لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّوْطِئَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الزِّيَادَةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَيَقُولُ: هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَحْمُولَةُ عَلَى الزِّيَادَةِ جَاءَتْ لِفَوَائِدَ وَمَعَانٍ تَخُصُّهَا، فَلَا أَقْضِي عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ دُرُسْتُوَيْهِ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالزِّيَادَةِ إِثْبَاتُ مَعْنًى لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِلَيْنَا بِهِ حَاجَةً، لَكِنَّ الْحَاجَاتِ إِلَى الْأَشْيَاءِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ، فَلَيْسَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اللَّفْظِ الَّذِي عَدَّهُ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً كَالْحَاجَةِ إِلَى اللَّفْظِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ يُسَمُّونَ الزَّائِدَ صِلَةً، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ مُقْحَمًا، وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ سِيبَوَيْهِ.
كَتَجْوِيزِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي (لِلْفُقَرَاءِ) فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " (الْآيَةَ: 8) أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} (الْآيَةَ: 7)، وَهَذَا فَصْلٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَرِيبُ بِقَرَابَتِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُهُ، وَنَظِيرُهُ إِعْرَابُ بَعْضِهِمْ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} (الْأَنْبِيَاءِ: 3) بَدَلًا مِنَ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (الْأَنْبِيَاءِ: 1).
وَلَا يَجُوزُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يُجَوِّزُهُ النُّحَاةُ فِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ تَقُولَ فِي نَحْوِ: اغْفِرْ لَنَا، وَاهْدِنَا فِعْلَيْ دُعَاءٍ أَوْ سُؤَالٍ، وَلَا تَقُولَ: فِعْلَيْ أَمْرٍ؛ تَأَدُّبًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ الْعُلُوَّ وَالِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيدِيُّ فِي الْبَصَائِرِ: سَأَلْتُ السِّيرَافِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (آلِ عِمْرَانَ: 18) بِمَ انْتَصَبَ؟ قَالَ: بِالْحَالِ. قُلْتُ: لِمَنِ الْحَالُ؟ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: فَيُقَالُ: لِلَّهِ حَالٌ؟ قَالَ: إِنَّ الْحَالَ فِي اللَّفْظِ لَا لِمَنْ يُلْفَظُ بِالْحَالِ عَنْهُ. وَلَكِنَّ التَّرْجَمَةَ لَا تَسْتَوْفِي حَقِيقَةَ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصُوغَ الْوَهْمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صِيَاغَةً تَسْكُنُ إِلَيْهَا النَّفْسُ، وَيَنْتَفِعُ بِهَا الْقَلْبُ، ثُمَّ تَكُونُ حَقَائِقُ الْأَلْفَاظِ فِي مُفَادِهَا غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا مَنْقُوضَةٍ بِاعْتِقَادٍ، وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى بُعْدٍ مِنَ اللَّفْظِ، كَذَلِكَ الْحَقِيقَةُ عَلَى بُعْدٍ مِنَ الْوَهْمِ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (الْبَقَرَةِ: 237) فَإِنَّهُ قَدْ نَتَوَهَّمُ الْوَاوَ فِي الْأُولَى ضَمِيرَ الْجَمْعِ، فَيُشْكِلُ ثُبُوتُ النُّونِ مَعَ " أَنْ " وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلِ الْوَاوُ هُنَا لَامُ الْكَلِمَةِ، وَالنُّونُ ضَمِيرُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، فَبَنَى الْفِعْلَ مَعَهَا عَلَى السُّكُونِ؛ فَإِذَا وُصِلَ النَّاصِبُ أَوِ الْجَازِمُ لَا تُحْذَفُ النُّونُ، وَمِثْلُهُ: " النِّسَاءُ يَرْجُونَ " بِخِلَافِ " الرِّجَالُ يَرْجُونَ "؛ فَإِنَّ الْوَاوَ فِيهِ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، وَالنُّونُ حِرَفُ عَلَامَةٍ لِلرَّفْعِ، وَأَصْلُهُ " يَرْجُوُونَ " أُعِلَّتْ لَامُ الْكَلِمَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ التَّصْرِيفُ، فَإِذَا دَخَلَ الْجَازِمُ حُذِفَ النُّونُ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللَّفْظُ وَاخْتَلَفَ فِي التَّقْدِيرِ. وَكَذَلِكَ يُبْحَثُ عَمَّا تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ فِي التَّقْدِيرِ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالظَّاهِرِ، فَفِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} (ص: 59) يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ مَرْحَبًا نَصَبَ اسْمَ " لَا "، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ عَمَلِهَا فِي الِاسْمِ أَلَّا يَكُونَ مَعْمُولًا لِغَيْرِهَا؛ وَإِنَّمَا نُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَجِبُ إِضْمَارُهُ وَ (لَا) دُعَاءٌ، وَ (بِهِمْ) بَيَانٌ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ مَرْحَبًا، وَأَجَازَ فِي جُمْلَةِ: لَا مَرْحَبًا أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَأَنْ تَكُونَ حَالًا، أَيْ: هَذَا فَوْجٌ مَقُولًا لَهُ: لَا مَرْحَبًا وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدَّرَ " مَقُولًا " فَمَقُولًا هُوَ الْحَالُ، وَ لَا مَرْحَبًا مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} (الْحُجُرَاتِ: 7) يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الظَّرْفَ قَبْلَهُ خَبَرُ " أَنَّ " عَلَى التَّقْدِيمِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمْ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّهُ لَوْ أَطَاعَكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، وَإِنَّمَا فِيكُمْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِيكُمْ لَوْ أَطَاعَكُمْ لَكَانَ كَذَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (فَاطِرٍ: 36)، وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (الْمُرْسَلَاتِ: 36) فَإِنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ فِيهِمَا بَعْدَ النَّفْيِ مَقْرُونًا بِالْفَاءِ، وَفِي الْأُولَى حُذِفَتِ النُّونُ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَثْبَتَهَا، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ حَذْفَ النُّونِ جَوَابًا لِلنَّفْيِ هُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْ نَصْبٍ " مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا " أَيْ: مَا يَكُونُ إِتْيَانٌ وَلَا حَدِيثٌ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي إِثْبَاتُ الْإِتْيَانِ وَنَفْيُ الْحَدِيثِ، أَيْ: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، أَيْ: تَأْتِينَا غَيْرَ مُحَدِّثٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْآيَةِ. وَأَمَّا إِثْبَاتُ النُّونِ فَعَلَى الْعَطْفِ. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَبِّعُهُ} (الْقَمَرِ: 24)، وَقَوْلُهُ: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} (التَّغَابُنِ: 6) حَيْثُ انْتَصَبَ بَشَرًا فِي الْأَوَّلِ، وَارْتَفَعَ فِي الثَّانِي، فَيُقَالُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ نَصْبَ بَشَرًا عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَالشَّاغِلُ لِلْعَامِلِ مَنْصُوبٌ، فَصَحَّ لِعَامِلِهِ أَنْ يُفَسِّرَ نَاصِبًا، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَالشَّاغِلُ مَرْفُوعٌ مُفَسِّرٌ رَافِعًا، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: أَزَيْدٌ قَامَ؟ فَزَيْدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ؛ لِطَلَبِ أَدَاةِ الْفِعْلِ، فَهَذَا فِي الِاشْتِغَالِ، وَالشَّاغِلُ مَرْفُوعٌ، وَتَقُولُ فِيمَا الشَّاغِلُ فِيهِ مَنْصُوبٌ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ؟ وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى نَصْبِ " قَلِيلٍ " فِي: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا} (الْبَقَرَةِ: 49) اخْتَلَفُوا فِي {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (النِّسَاءِ: 66)، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قَلِيلًا الْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ، وَالثَّانِي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَنْفِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَجْمَعُوا عَلَى النَّصْبِ فِي {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (النِّسَاءِ: 46) مَعَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ مُوجَبٍ؟ قِيلَ: لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، فَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا. وَمِثْلُهُ: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فِي سُورَةِ " الْحَدِيدِ " (الْآيَةَ: 10) قَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ بِرَفْعِ كَلٍّ وَوَافَقَ الْجَمَاعَةَ عَلَى النَّصْبِ فِي " النِّسَاءِ " (الْآيَةَ: 95)، وَالْفَرْقُ أَنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ " الْحَدِيدِ " شُغِلَ الْخَبَرُ بِهَاءٍ مُضْمَرَةٍ، وَلَيْسَ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، فَيُخْتَارُ لِأَجْلِهَا النَّصْبُ، فَرُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا الَّتِي فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " فَإِنَّمَا اخْتِيرَ فِيهَا النَّصْبُ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَهِيَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ}.
تَنْبِيهٌ: [فِي تَجَاذُبِ الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ] قَدْ يَتَجَاذَبُ الْإِعْرَابُ وَالْمَعْنَى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يُلِمُّ بِهِ كَثِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ أَنَّ الْمَعْنَى يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ، وَالْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ، قَالُوا: وَالتَّمَسُّكُ بِصِحَّةِ الْمَعْنَى يَئُولُ لِصِحَّةِ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (الطَّارِقِ: 8 وَ9) فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ يَوْمٌ يَقْتَضِي الْمَعْنَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ " رَجْعٌ "، أَيْ: أَنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَقَادِرٌ، لَكِنَّ الْإِعْرَابَ يَمْنَعُ مِنْهُ؛ لِعَدَمِ جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ، يُجْعَلُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ. وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} (الْمُؤْمِنِ: 10) فَالْمَعْنَى يَقْتَضِي تَعَلُّقَ إِذْ بِالْمَقْتِ، وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُهُ؛ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ، فَيُقَدَّرُ لَهُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقْتُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} (الْعَادِيَاتِ: 9 وَ10 وَ11) فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذٍ (خَبِيرٌ) وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُهُ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِنَّ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ الْعَامِلُ.
تَنْبِيهٌ: [فِي بَيَانِ مَرَاتِبِ الْكَلَامِ] عَلَى النَّحْوِيِّ بَيَانُ مَرَاتِبِ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْعُمْدَةِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْفَضْلَةِ، وَمَرْتَبَةَ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْخَبَرِ، وَمَرْتَبَةَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَإِنْ كَانَا فَضْلَتَيْنِ وَمَرْتَبَةَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِذَا اتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِمَا مَرْتَبَتُهُ التَّقْدِيمُ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى مَا مَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا لَفْظًا وَمَرْتَبَةً، وَإِذَا اتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِمَا مَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ وَهُوَ يَعُودُ عَلَى مَا مَرْتَبَتُهُ التَّقْدِيمُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقَدَّمًا لَفْظًا مُؤَخَّرًا رُتْبَةً، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ: " فِي دَارِهِ زَيْدٌ "؛ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْخَبَرِ وَمَرْتَبَتُهُ التَّأْخِيرُ، وَلَا يَجُوزُ: " صَاحِبُهَا فِي الدَّارِ "؛ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِالْمُبْتَدَأِ، وَمَرْتَبَتُهُ التَّقْدِيمُ.
وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفَ كَثِيرَةً، وَأَجْمَعُهَا مَا جَمَعَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ النَّقِيبِ مُجَلَّدَيْنِ قَدَّمَهُمَا أَمَامَ " تَفْسِيرِهِ "، وَمَا وَضَعَهُ حَازِمٌ الْأَنْدَلُسِيُّ الْمُسَمَّى بِـ " مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ، وَسِرَاجِ الْأُدَبَاءِ ". وَهَذَا الْعِلْمُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْمُفَسِّرِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْجَازُ، مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَتَأْلِيفِ النَّظْمِ، وَأَنْ يُوَاخِي بَيْنَ الْمَوَارِدِ، وَيَعْتَمِدَ مَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ حَتَّى لَا يَتَنَافَرَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمْلَأُ النَّاسِ بِهَذَا صَاحِبُ " الْكَشَّافِ "، قَالَ السَّكَّاكِيُّ: " وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ الْإِعْجَازِ عَجِيبٌ، يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ، تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا، وَكَالْمَلَاحَةِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِهِ لِذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إِلَّا إِتْقَانُ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَالتَّمَرُّنُ فِيهِمَا ". وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ حَقِّ مُفَسِّرِ كِتَابِ اللَّهِ الْبَاهِرِ، وَكَلَامِهِ الْمُعْجِزِ، أَنْ يَتَعَاهَدَ فِي مَذَاهِبِهِ بَقَاءَ النَّظْمِ عَلَى حُسْنِهِ، وَالْبَلَاغَةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَمَا وَقَعَ بِهِ التَّحَدِّي سَلِيمًا مِنَ الْقَادِحِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَاهَدْ أَوْضَاعَ اللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ تَعَاهُدِ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى مَرَاحِلَ. وَادَّعَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ فِي كِتَابِ " إِعْجَازِ الْقُرْآنِ " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الْعِلْمِ لَا يُعَدُّ مِنَ الْبَلَاغَةِ الْقُرْآنِيَّةِ؛ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خِلَافِ أَسَالِيبِهِمْ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ عَدَدْتَ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِهِ؛ مَعَ أَنَّ سَلَفَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَخُوضُوا فِيهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هَذَا أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ؟. قُلْتُ: إِنَّمَا سَكَتَ الْأَوَّلُونَ عَنْهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ تَعْلِيمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَتَعْرِيفُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ تَعْلِيمُ طُرُقِ الْفَصَاحَةِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَكُونَ مُعْجِزَةً، وَمَا قُصِدَ بِهِ الْإِعْجَازُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِهِ، فَلَمْ يَكُنِ الْخَوْضُ فِيهِ مُسَوَّغًا، إِذِ الْبَلَاغَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فِيهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، لَا مَعَ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ بَلِيغًا بِحَسَبِ كَمَالِ الْمُتَكَلِّمِ، فَلِهَذَا لَمْ يَتَكَلَّمِ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مَعْرِفَتُهُمْ بِأَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانٍ، بِخِلَافِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، فَلِهَذَا تَكَلَّمُوا فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ بِأَوْضَاعِهَا هِيَ عُمْدَةُ التَّفْسِيرِ، الْمُطْلِعِ عَلَى عَجَائِبِ كَلَامِ اللَّهِ، وَهِيَ قَاعِدَةُ الْفَصَاحَةِ، وَوَاسِطَةُ عِقْدِ الْبَلَاغَةِ، وَلَوْ لَمْ يُحَبِّبِ الْفَصَاحَةَ إِلَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرَّحْمَنِ: 1- 4) لَكَفَى، وَالْمَعْلُومَاتُ كَثِيرَةٌ، وَمِنَنُ اللَّهِ تَعَالَى جَمَّةٌ، وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا تَعْلِيمَ الْبَيَانِ، وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} (آلِ عِمْرَانَ: 138)، وَقَالَ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النَّحْلِ: 89). وَلِحَذْفِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرَّحْمَنِ: 4) نُكْتَةٌ عِلْمِيَّةٌ، فَإِنَّهُ جَعَلَ تَعْلِيمَ الْبَيَانِ فِي وِزَانِ خَلْقِهِ، وَكَالْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ (الرَّحْمَنِ: 3)؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَكَأَنَّهُ إِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ بِقَوْلِهِمْ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ: " حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ". وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ تُفِيدُ قُوَّةَ الْإِفْهَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ وَيُرَادُ مِنْهُ، لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنِ اتِّبَاعِ التَّصْدِيقِ بِهِ، وَإِذْعَانِ النَّفْسِ لَهُ. وَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِمَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا الْبَلِيغُ مُثْبِتًا وَنَافِيًا. فَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (الْقِيَامَةِ: 40) بَعْدَ ذِكْرِهِ النُّطْفَةَ وَمُتَعَلَّقَهَا فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ، وَكَقَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزُّمَرِ: 67) فَمَنْ يَقْرَعُ سَمْعَهُ هَذَا الْكَلَامُ الْمُعْجِزُ اسْتَشْعَرَ مِنْ رَوْعَةِ النَّفْسِ وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ مَا يُمَكِّنُ خَشْيَةَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ مِنْ قَلْبِهِ. وَمِنْهَا بَيَانُ الْحَقِّ فِيمَا يُشْكِلُ مِنَ الْأُمُورِ غَيْرِ الْعَقَائِدِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الْأَنْفَالِ: 61)، وَكَقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ فَانْظُرْ كَيْفَ أَعْطَى فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ الْيَسِيرَةِ الْحُجَّةَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ احْتِلَامَ الْمَرْأَةِ، فَلَا أَبْيَنَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ، وَلَا أَشْفَى لِلْمُرْتَابِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّهُ يَرَى إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ عِيَانًا، وَهُوَ شِبْهُ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ، وَيَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُحَالُ الشَّبَهُ عَلَيْهِ غَيْرَ الَّذِي أَنْكَرَ. وَمِنْهَا تَمْكِينُ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنَ النُّفُوسِ مِثْلَ الِاسْتِعْطَافِ وَالْإِعْرَاضِ، وَالْإِرْضَاءِ وَالْإِغْضَابِ، وَالتَّشْجِيعِ وَالتَّخْوِيفِ، وَيَكُونُ فِي مَدْحٍ وَذَمٍّ، وَشِكَايَةٍ وَاعْتِذَارٍ، وَإِذْنٍ وَمَنْعٍ، وَيَنْضَمُّ إِلَى قُوَّةِ الْقَوْلِ الْبَلَاغِيِّ مَعْنًى مُتَّصِلٌ إِعَانَةً لَهَا؛ مِثْلَ فَضِيلَةِ الْقَائِلِ وَحَمِيَّةِ النَّازِعِ، وَقُوَّةِ الْبَلِيغِ عَلَى إِطْرَاءِ نَفْسِهِ، وَتَحْسِينِ رَأْيِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءُ الْمُخَاطَبِ إِلَى فَضْلِ تَأَمُّلٍ، وَزِيَادَةِ تَفَهُّمٍ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (سَبَأٍ: 46)، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 3)، وَسِرُّ هَذَا أَنَّ السَّامِعَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُثْنَى عَلَيْهِمْ، فَيُسَارِعُ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَيُلْقَى فِي نَفْسِهِ نُورٌ مِنَ التَّوْفِيقِ. وَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ الْبَلَاغِيُّ مَا يُسَمَّى الضَّمِيرَ، وَيُسَمَّى التَّمْثِيلَ، وَأَعْنِي بِالضَّمِيرِ أَنْ يُضْمَرَ بِالْقَوْلِ الْمُجَادَلِ بِهِ لِبَيَانِ أَحَدِ حَرْفَيْهِ؛ كَقَوْلِ الْفَقِيهِ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ؛ فَهُوَ حَرَامٌ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 27). وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْإِضْمَارُ فِي الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ أَيْضًا؛ كَقَوْلِكَ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ عَزِيزًا لَمَنَعَ بِأَعِنَّةِ الْخَيْلِ جَارَهُ، أَوْ جَوَادًا لَشَبَّ لِسَارِي اللَّيْلِ نَارَهُ؛ مُعَوِّلًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَا مَنَعَ وَلَا شَبَّ، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الْبُخْلُ وَالذِّلَّةُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آلِ عِمْرَانَ: 159)، وَقَدْ شَهِدَ الْحِسُّ وَالْعِيَانُ أَنَّهُمْ مَا انْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَهِيَ الْمُضْمَرَةُ، فَانْتَفَى عَنْهُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- أَنَّهُ فَظٌّ غَلِيظُ الْقَلْبِ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا أُبْرِزَ فِيهِ هَذَا الْمُضْمَرُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مَوْلًى هَجَوْتُهُ *** وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى مَوَالِيَا وَمِثَالُ الِاسْتِمَالَةِ وَالِاسْتِعْطَافِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الْأَعْرَافِ: 23)، وَحَسْبُكَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ حِينَ سَمِعَ شِعْرَ الْقَائِلَةِ: مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا *** مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ قَالَ: لَوْ بَلَغَنِي شِعْرُهَا قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ لَمَا قَتَلْتُهُ. وَقَالَ الْآخَرُ: وَنَحْنُ الْكَاتِبُونَ وَقَدْ أَسَأْنَا *** فَهَبْنَا لِلْكِرَامِ الْكَاتِبِينَا وَمِنَ الِاسْتِمَالَةِ وَالِاسْتِرْضَاءِ مَا لَا يَخْرِقُ السَّمْعَ أَنْفَذُ مِنْهُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَأَوْقَعُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْأَنْصَارِ وَقَدْ وَجَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي غَيْرِهِمْ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ كَذَا؟ أَلَمْ أَجِدْكُمْ كَذَا؟ ثُمَّ قَالَ: أَجِيبُونِي. فَمَا زَادُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَمَا إِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ وَلَصَدَقْتُمْ: جِئْتَنَا بِحَالِ كَذَا وَكَذَا فَانْظُرْ مَا أَعْجَبَ هَذَا! اسْتَشْعَرَ مِنْهُمْ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ إِمْسَاكَهُمْ عَنِ الْجَوَابِ أَدَبٌ مَعَهُ لَا عَجْزٌ عَنْهُ، فَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا صُدِّقُوا، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ بِالَّذِي يَغْضَبُ مِنْ سَمَاعِهِ، ثُمَّ زَادَهُمْ تَكْرِيمًا بِقَوْلِهِ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ، وَتَنْصَرِفُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ ثُمَّ زَادَ يَمِينَهُ الْمُبَارَكَةَ الْبَرَّةَ عَلَى فَضْلِ مَا يَنْصَرِفُونَ بِهِ؛ اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَحَبَّتِهِ وَتَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِشَفَاعَتِهِ. وَمِمَّا تَجِدُ مِنْ هَذَا الطِّرَازِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أُنَاسٌ أَعْرَضُوا عَنَّا *** بِلَا جُرْمٍ وَلَا مَعْنَى أَسَاءُوا ظَنَّهُمْ فِينَا *** فَهَلَّا أَحْسَنُوا الظَّنَّا فَإِنْ عَادُوا لَنَا عُدْنَا *** وَإِنْ خَانُوا فَمَا خُنَّا وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَغْنَوْا *** فَإِنَّا عَنْهُمْ أَغْنَى وَإِنْ قَالُوا: ادْنُ مِنَّا بَعْـ *** ـدُ بَاعَدْنَا مَنِ اسْتَدْنَى وَمِنَ الْإِغْضَابِ الْعَجِيبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الْمُمْتَحِنَةِ: 9)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الْمُمْتَحِنَةِ: 1)، وَقَوْلُهُ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (الْكَهْفِ: 50)، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: إِذَا وَالَى صَدِيقُكَ مَنْ تُعَادِي *** فَقَدْ عَادَاكَ وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ وَمِنْ قِسْمِ التَّشْجِيعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصَّفِّ: 4)، وَكَفَى بِحُبِّ اللَّهِ مُشَجِّعًا عَلَى مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُبَاشَرَةِ الطِّعَانِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 125)، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ وَالْقَوْمُ صَبَرُوا، وَالْمَلِكُ الْحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَدَهُمْ بِالْمَدَدِ الْكَثِيرِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 126). وَقَوْلُهُ: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (النِّسَاءِ: 104). وَفِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْقِسْمِ مَا يُرَادُ بِهِ الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ، وَالثَّانِي بِالْحَرْبِ وَالِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهَا بِالْعُدَّةِ، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (الْبَقَرَةِ: 195)، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الْأَنْفَالِ: 60). وَمِنْهُ الْإِبَانَةُ بِالْمَدْحِ، وَرُبَّمَا مُدِحَ الْكَرِيمُ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الزِّلَّةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالذَّنْبِ؛ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيمَا أَسَرَّ سَيِّدُ الْبَشَرِ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مِمَّنْ أَظْهَرَهُ عَلَى إِفْشَائِهِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عَرَفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ (التَّحْرِيمِ: 3)؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ *** لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي وَمِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ يُسَلِّمُهُ السَّامِعُ، وَيُقَوِّيهِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ الْأَشْقِيَاءِ تَحْذِيرًا لِمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَأَخْبَارِ السُّعَدَاءِ، تَرْغِيبًا لِمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ كَيْفَ ظَهَرَ إِمْكَانُ نَقْلِ الْحُكْمِ مِنْ شَبَهٍ إِلَى شَبَهٍ. وَمِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ التَّرْغِيبَ مَعَ التَّرْهِيبِ، وَيُشْفِعَ الْبِشَارَةَ بِالْإِنْذَارِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " وَسِرُّهُ إِرَادَةُ التَّسْلِيطِ لِاكْتِسَابِ مَا يُزْلِفُ، وَالتَّثْبِيطُ عَنِ اقْتِرَافِ مَا يُتْلِفُ؛ فَلَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ وَأَعْمَالَهُمْ وَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، ثَنَّاهُ بِبِشَارَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ".
لِيَكُنْ مَحَطُّ نَظَرِ الْمُفَسِّرِ مُرَاعَاةَ نَظْمِ الْكَلَامِ الَّذِي سِيقَ لَهُ، وَإِنْ خَالَفَ أَصْلَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِثُبُوتِ التَّجَوُّزِ، وَلِهَذَا تَرَى صَاحِبَ " الْكَشَّافِ " يَجْعَلُ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ مُعْتَمَدًا، حَتَّى كَأَنَّ غَيْرَهُ مَطْرُوحٌ.
وَذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ، وَيُوجَدُ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ عِلْمِ الْقِرَاءَةِ. وَأَحْسَنُ الْمَوْضُوعِ لِلْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ كِتَابُ " التَّيْسِيرِ " لِأَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ، وَقَدْ نَظَمَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ الشَّاطِبِيُّ فِي " لَامِيَّتِهِ " الَّتِي عَمَّ النَّفْعُ بِهَا، وَكِتَابُ " الْإِقْنَاعِ " لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبَاذِشِ، وَفِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ كِتَابُ " الْمِصْبَاحِ " لِأَبِي الْكَرَمِ الشَّهْرُزُورِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْقِرَاءَاتِ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ؛ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ، وَالْقِرَاءَاتُ هِيَ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ فِي كَتَبَةِ الْحُرُوفِ أَوْ كَيْفِيِّتِهَا؛ مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَثْقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ هَاهُنَا أُمُورٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: بَلْ مَشْهُورَةٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِ الْمُبَرِّدِ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ: (وَالْأَرْحَامِ) (النِّسَاءِ: 1)، وَ (مُصْرِخِيِّ) (إِبْرَاهِيمَ: 22)، وَلَا بِإِنْكَارِ مَغَارِبَةِ النُّحَاةِ كَابْنِ عُصْفُورٍ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ: (قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ) (الْأَنْعَامِ: 137)، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمَّا تَوَاتُرُهَا عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ إِسْنَادَ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ، وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ عَنِ الْوَاحِدِ لَمْ تُكْمِلْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ فِي اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ، وَهَذَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِهِ " الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ " إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
اسْتَثْنَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ قَوْلَنَا: إِنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ مُتَوَاتِرَةٌ مَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ، وَمَثَّلَهُ بِالْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ؛ يَعْنِي فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَدَّ وَالْإِمَالَةَ لَا شَكَّ فِي تَوَاتُرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْمَدُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَدٌّ، وَالْإِمَالَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا إِمَالَةٌ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي تَقْدِيرِ الْمَدِّ؛ فِي الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ طَوِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ قَصِيرًا؛ وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي الْقَصْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَزَايَدَ؛ فَحَمْزَةُ وَوَرْشٌ بِمِقْدَارِ سِتِّ لُغَاتٍ، وَقِيلَ: خَمْسٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعٌ، وَعَنْ عَاصِمٍ ثَلَاثٌ، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: أَلِفَانِ وَنِصْفٌ، وَقَالُونَ: أَلِفَانِ، وَالسُّوسِيِّ: أَلِفٌ وَنِصْفٌ. قَالَ الدَّانِيُّ فِي " التَّيْسِيرِ ": أَطْوَلُهُمْ مَدًّا فِي الضَّرْبَيْنِ جَمِيعًا- يَعْنِي الْمُتَّصِلَ وَالْمُنْفَصِلَ- وَرْشٌ وَحَمْزَةُ، وَدُونَهُمَا عَاصِمٌ، وَدُونَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ، وَدُونَهُمَا أَبُو عَمْرٍو مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَالُونُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَشِيطٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى التَّقْرِيبِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مِقْدَارِ مَذَاهِبِهِمْ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْحَدْرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ أَصْلَ الْمَدِّ مُتَوَاتِرٌ، وَالِاخْتِلَافُ وَالطُّرُقُ إِنَّمَا هُوَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّلَفُّظِ بِهِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْرَأُ بِمَدَّتَيْنِ: طُولَى لِوَرْشٍ وَحَمْزَةَ، وَوُسْطَى لِمَنْ بَقِيَ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَرِهَ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ طُولِ الْمَدِّ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ: لَا تُعْجِبُنِي، وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً لَمَا كَرِهَهَا. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقُرَّاءُ أَنَّ الْإِمَالَةَ قِسْمَانِ فِي الْقُرْآنِ: إِمَالَةٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ أَنْ يُنْحَى بِالْأَلِفِ إِلَى الْيَاءِ وَتَكُونُ الْيَاءُ أَقْرَبَ، وَبِالْفَتْحَةِ إِلَى الْكَسْرَةِ وَتَكُونُ الْكَسْرَةُ أَقْرَبَ، وَإِمَالَةٌ تُسَمَّى بَيْنَ بَيْنَ، وَهِيَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَالْفَتْحَةَ أَقْرَبُ، وَهَذِهِ أَصْعَبُ الْإِمَالَتَيْنِ، وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا شَكَّ فِي تَوَاتُرِ الْإِمَالَةِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهَا مُبَالَغَةً وَحُضُورًا. أَمَّا تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ فِي الْقُرْآنِ- وَهُوَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ تَخْفِيفٌ وَتَلْيِينٌ وَتَسْهِيلٌ، أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ- فَإِنَّهُ يَشْمَلُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّخْفِيفِ، وَكُلٌّ مِنْهَا مُتَوَاتِرٌ بِلَا شَكٍّ. أَحَدُهَا: النَّقْلُ، وَهُوَ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا، مِنْ أَنْوَاعِ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ: (قَدْ أَفْلَحَ) (الْمُؤْمِنُونَ: 1) بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ الْفَتْحَةُ إِلَى دَالِ قَدْ وَتَسْقُطُ الْهَمْزُ، فَيَبْقَى اللَّفْظُ بِدَالٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا فَاءٌ، وَهَذَا النَّقْلُ قِرَاءَةُ نَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ وَرْشٍ فِي حَالِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ فِي حَالِ الْوَقْفِ. الثَّانِي: أَنْ تُبْدَلَ الْهَمْزَةُ حَرْفَ مَدٍّ مِنْ جِنْسِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا إِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ أُبْدِلَتْ أَلِفُهَا مِنْ أَنْوَاعِ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ: " بَاسٍ "، وَهَذَا الْبَدَلُ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَنَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ وَرْشٍ فِي فَاءِ الْفِعْلِ، وَحَمْزَةَ إِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ الْهَمْزِ، بَيْنَ بَيْنَ، مِنْ أَنْوَاعِ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ أَنْ تُسَهَّلَ الْهَمْزَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَرْفِ الَّذِي مِنْهُ حَرَكَتُهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَضْمُومَةً سُهِّلَتْ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، أَوْ مَفْتُوحَةً فَبَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ، أَوْ مَكْسُورَةً فَبَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ، وَهَذَا يُسَمَّى إِشْمَامًا، وَقَرَأَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ (الْأَنْعَامِ: 143 وَ144)، وَنَحْوِهِ، وَذَكَرَهُ النُّحَاةُ عَنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " تَصْرِيفِهِ ": وَاغْتُفِرَ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ فِي نَحْوِ: آلْحَسَنُ عِنْدَكَ؟ وَآيْمُنُ اللَّهِ يَمِينُكَ؟ وَهُوَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ أَوَّلُهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ مَفْتُوحَةٌ، وَدَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَا فِيهِ لَامُ التَّعْرِيفِ مُطْلَقًا، وَفِي ايْمُنِ اللَّهِ وَايْمُ اللَّهِ خَاصَّةً، إِذْ لَا أَلِفَ وَصْلٍ مَفْتُوحَةً سِوَاهَا؛ وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَوْفَ لَبْسِ الْخَبَرِ بِالِاسْتِخْبَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: أَلْحَسَنُ عِنْدَكَ؟ وَحَذَفُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مِثْلِهَا لَمْ يُعْلَمْ أَسْتِخْبَارٌ هُوَ أَمْ خَبَرٌ؟ فَأَتَوْا بِهَذِهِ عِوَضًا عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ قَبْلَ السَّاكِنِ، فَصَارَ قَبْلَ السَّاكِنِ مَدَّةٌ، فَقَالُوا: آلْحَسَنُ عِنْدَكَ؟ وَكَذَلِكَ آيْمُنُ اللَّهِ يَمِينُكَ؟ فِيمَا ذَكَرَهُ. وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَجْعَلُ هَمْزَةَ الْوَصْلِ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ بَيْنَ، وَيَقُولُ: آلْحَسَنُ عِنْدَكَ؟ وَآيْمُنُ اللَّهِ يَمِينُكَ؟ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْقُرَّاءِ بِالْوَجْهَيْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ أَشَارَ الصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- إِلَى التَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، فَكَتَبُوا صُورَةَ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: " قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ " (آلِ عِمْرَانَ: 15) وَاوًا عَلَى إِرَادَةِ التَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ، قَالَهُ الدَّانِيُّ وَغَيْرُهُ. الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ الْإِسْقَاطِ؛ مِنْ أَنْوَاعِ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ تُسْقَطَ الْهَمْزَةُ رَأْسًا. وَقَدْ قَرَأَ بِهِ أَبُو عَمْرٍو فِي الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي الْحَرَكَةِ، فَأَسْقَطَ الْأُولَى مِنْهُمَا عَلَى رَأْيِ الشَّاطِبِيِّ، وَقِيلَ: الثَّانِيَةَ فِي نَحْوِ: جَاءَ أَجَلُهُمْ (النَّحْلِ: 61)، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَفْتُوحَتَيْنِ نَافِعٌ مِنْ طَرِيقِ قَالُونَ، وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْبَزِّيِّ، وَجَاءَ هَذَا الْإِسْقَاطُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي قِرَاءَةِ قُنْبُلٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي: (أَيْنَ شُرَكَايَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) (النَّحْلِ: 27) بِإِسْقَاطِ هَمْزَةِ شُرَكَائِيَ.
أَنَّ الْقِرَاءَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَيْسَتِ اخْتِيَارِيَّةً، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ تَدُورُ مَعَ اخْتِيَارِ الْفُصَحَاءِ وَاجْتِهَادِ الْبُلَغَاءِ، وَرُدَّ عَلَى حَمْزَةَ قِرَاءَةُ: (وَالْأَرْحَامِ) (النِّسَاءِ: 1) بِالْخَفْضِ؛ وَمِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ أَنْ خَطَّئُوا حَمْزَةَ فِي قِرَاءَتِهِ: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيِّ) (إِبْرَاهِيمَ: 22) بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَكَذَا أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي عَمْرٍو إِدْغَامَهُ الرَّاءَ عِنْدَ اللَّامِ فِي: (يَغْفِلَّكُمْ) (نُوحٍ: 4). وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ خَطَأٌ فَاحِشٌ، وَلَا تُدْغَمُ الرَّاءُ فِي اللَّامِ إِذَا قُلْتَ: " مُرْلِي بِكَذَا "؛ لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفٌ مُكَرَّرٌ، وَلَا يُدْغَمُ الزَّائِدُ فِي النَّاقِصِ لِلْإِخْلَالِ بِهِ، فَأَمَّا اللَّامُ فَيَجُوزُ إِدْغَامُهُ فِي الرَّاءِ، وَلَوْ أُدْغِمَتِ اللَّامُ فِي الرَّاءِ لَزِمَ التَّكْرِيرُ مِنَ الرَّاءِ. وَهَذَا إِجْمَاعُ النَّحْوِيِّينَ. انْتَهَى. وَهَذَا تَحَامُلٌ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي " كِتَابِهِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا هَذَا بَشَرًا) (يُوسُفَ: 31)، وَبَنُو تَمِيمٍ يَرْفَعُونَهُ إِلَّا مَنْ دَرَى كَيْفَ هِيَ فِي الْمُصْحَفِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ مَا رُوِيَ عَنْهُ. انْتَهَى.
مَا تَضَمَّنَهُ " التَّيْسِيرُ " وَ " الشَّاطِبِيَّةُ " لَمْ يَحْوِيَا جَمِيعَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ ، قَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ: لَمْ يَحْوِيَا جَمِيعَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنْهَا، وَمَنْ عُنِيَ بِفَنِّ الْقِرَاءَاتِ، وَطَالَعَ مَا صَنَّفَهُ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ- عَلِمَ ذَلِكَ الْعِلْمَ الْيَقِينَ وَذَلِكَ أَنَّ بِلَادَنَا جَزِيرَةَ الْأَنْدَلُسِ لَمْ تَكُنْ مِنْ قَدِيمٍ بِلَادَ إِقْرَاءِ السَّبْعِ، لِبُعْدِهَا عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَاجْتَازُوا عِنْدَ الْحَجِّ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَتَحَفَّظُوا مِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ حُرُوفِ السَّبْعِ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ بِمِصْرَ إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ رِوَايَاتٌ مُتَّسِعَةٌ وَلَا رِحْلَةٌ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي اتَّسَعَتْ فِيهَا الرِّوَايَاتُ؛ كَأَبِي الطَّيِّبِ بْنِ غَلْبُونَ، وَابْنِهِ أَبِي الْحَسَنِ طَاهِرٍ، وَأَبِي الْفَتْحِ فَارِسِ بْنِ أَحْمَدَ، وَابْنِهِ عَبْدِ الْبَاقِي، وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ نَفِيسٍ، وَكَانَ بِهَا أَبُو أَحْمَدَ السَّامَرِّيُّ، وَهُوَ أَعْلَاهُمْ إِسْنَادًا. وَسَبَبُ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَاتِ بِدِيَارِ مِصْرَ مَا كَانَ غَلَبَ عَلَى أَهْلِهَا مِنْ تَغَلُّبِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ عَلَيْهَا، وَقَتْلِ مُلُوكِهِمُ الْعُلَمَاءَ، فَكَانَ مِنْ قُدَمَاءِ عُلَمَائِنَا مِمَّنْ حَجَّ يَأْخُذُ بِمِصْرَ شَيْئًا يَسِيرًا؛ كَأَبِي عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيِّ صَاحِبِ " الرَّوْضَةِ "، وَأَبِي مُحَمَّدٍ مَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. ثُمَّ رَحَلَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ لِطُولِ إِقَامَتِهِ بِدَانِيَةَ، فَأَخَذَ عَنِ ابْنِ خَاقَانَ، وَفَارِسٍ، وَابْنِ غَلْبُونَ، وَصَنَّفَ كِتَابَ " التَّيْسِيرِ " وَقَرَأَ النَّاسُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَرَحَلَ أَيْضًا أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ جُبَارَةَ الْأَنْدَلُسِيُّ، فَأَبْعَدَ فِي الشُّقَّةِ، وَجَمَعَ بَيْنَ طَرِيقِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَصَنَّفَ كِتَابَ " الْكَامِلِ " يَحْتَوِي عَلَى الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَوْسَعَ رِحْلَةً مِنْهُ، وَلَا أَكْثَرَ شُيُوخًا. وَقَدْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِمَكَّةَ أَبُو مَعْشَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَارِزِينِيُّ، وَكَانَا مُتَّسِعَيِ الرِّوَايَةِ. وَكَانَ بِمِصْرَ أَبُو عَلِيٍّ الْمَالِكِيُّ مُؤَلِّفُ " الرَّوْضَةِ "، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ بِالْعِرَاقِ، وَأَقْرَأَ بِمِصْرَ. وَبَعْدَهُمُ التَّاجُ الْكِنْدِيُّ، فَأَقْرَأَ النَّاسَ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ لَمْ تَصِلْ إِلَى بِلَادِنَا. وَكَانَ أَيْضًا ابْنُ مَامَوَيْهِ بِدِمَشْقَ، يُقْرِئُ الْقُرْآنَ بِالْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ. وَبِمِصْرَ النِّظَامُ الْكُوفِيُّ، يُقْرِئُ بِالْعَشْرِ وَبِغَيْرِهَا، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ وَالْحَسَنِ. وَكَانَ بِمَكَّةَ أَيْضًا زَاهِرُ بْنُ رُسْتُمَ، وَأَبُو بَكْرٍ الزِّنْجَانِيُّ، وَكَانَا قَدْ أَخَذَا عَنْ أَبِي الْكَرَمِ الشَّهْرُزُورِيِّ كِتَابَ " الْمِصْبَاحِ الزَّاهِرِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الْبَوَاهِرِ " وَأَقْرَأَهُ الزِّنْجَانِيُّ لِبَعْضِ شُيُوخِنَا. وَكَانَ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوثِيُّ بِدِمَشْقَ، يُقْرِئُ الْقُرْآنَ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ أَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْحَاصِلُ اتِّسَاعُ رِوَايَاتِ غَيْرِ بِلَادِنَا، وَأَنَّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ " التَّيْسِيرُ " وَ " التَّبْصِرَةُ " وَ " الْكَافِي " وَغَيْرُهَا مِنْ تَآلِيفِهِمْ إِنَّمَا هُوَ قُلٌّ مِنْ كُثْرٍ، وَنَزْرٌ مِنْ بَحْرٍ. وَبَيَانُهُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مَثَلًا قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ وَرْشٍ وَقَالُونَ، وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْ نَافِعٍ غَيْرَهُمَا، مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ، وَابْنُ مَخْلَدٍ، وَابْنُ جَمَّازٍ، وَالْأَصْمَعِيُّ، وَالْمُسَيَّبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ وَأَوْثَقُ مِنْ وَرْشٍ وَقَالُونَ، وَكَذَا الْعَمَلُ فِي كُلِّ رَاوٍ وَقَارِئٍ.
أَنَّ بِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ يَظْهَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَحْكَامِ؛ وَلِهَذَا بَنَى الْفُقَهَاءُ نَقْضَ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ وَعَدَمَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ فِي لَمَسْتُمْ، وَلَامَسْتُمْ (النِّسَاءِ: 43)، وَكَذَلِكَ جَوَازُ وَطْءِ الْحَائِضِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ وَعَدَمِهِ إِلَى الْغُسْلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي (حَتَّى يَطْهُرْنَ) (الْبَقَرَةِ: 222). وَكَذَلِكَ السَّجْدَةُ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " (الْآيَةَ: 25)، مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: " مَنْ خَفَّفَ (أَلَا) كَانَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ، وَمَنْ شَدَّدَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَمْرٌ بِهِ ". وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ. إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ إِذَا قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بِهِمَا جَمِيعًا. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بِقِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَذِنَ أَنْ يُقْرَأَ بِقِرَاءَتَيْنِ. وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ " الْبُسْتَانِ " لِأَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، ثُمَّ اخْتَارُوا فِي الْمَسْأَلَةِ تَوَسُّطًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ تَفْسِيرٌ يُغَايِرُ الْآخَرَ فَقَدْ قَالَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَتَصِيرُ الْقِرَاءَاتُ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (الْبَقَرَةِ: 222)، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُمَا وَاحِدًا كَالْبُيُوتِ وَالْبِيُوتِ، وَالْمُحْصَنَاتِ وَالْمُحْصِنَاتِ، بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَإِنَّمَا قَالَ بِأَحَدِهِمَا، وَأَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِهِمَا لِكُلِّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَا تَعَوَّدَ لِسَانُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا صَحَّ أَنَّهُ قَالَ بِأَحَدِهِمَا؛ فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَالَ؟ قِيلَ: بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. انْتَهَى.
أَنَّ الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَكُنْ مُتَمَيِّزَةً عَنْ غَيْرِهَا إِلَّا فِي قَرْنِ الْأَرْبَعِمِائَةِ، (الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ) جَمَعَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّسِعُ الرِّوَايَةِ وَالرِّحْلَةِ كَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الْمَنْقُولَةُ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ: أَحَدُهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ الْقُرَشِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو سَعِيدٍ، وَقِيلَ: أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: أَبُو الصَّلْتِ، وَيُقَالُ لَهُ الدَّارِيُّ، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَسَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَغَيْرَهُ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ. الثَّانِي: نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ؛ مَوْلَى جَعْوَنَةَ بْنِ شَعُوبٍ اللَّيْثِيِّ، هُوَ مَدَنِيٌّ، أَصْلُهُ مِنْ أَصْبَهَانَ، كُنْيَتُهُ أَبُو رُوَيْمٍ، وَقِيلَ: أَبُو الْحَسَنِ، وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. الثَّالِثُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ الْيَحْصُبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وُلِدَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ، وَفِي كُنْيَتِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ؛ أَصَحُّهَا: أَبُو عَمْرٍو، وَقِيلَ: أَبُو مُحَمَّدٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَأَبُو عُثْمَانَ، وَأَبُو مُغِيثٍ. الرَّابِعُ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، قِيلَ: اسْمُهُ زَبَّانُ، وَقِيلَ: يَحْيَى، وَقِيلَ: عُثْمَانُ، وَقِيلَ: مَحْبُوبٌ، وَقِيلَ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَقَرَأَ عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ. الْخَامِسُ: عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ- بِفَتْحِ النُّونِ- أَبُو بَكْرٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، قَالَ سُفْيَانُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: بَهْدَلَةُ هُوَ أَبُو النَّجُودِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: بَهْدَلَةُ أُمُّهُ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: هَذَا خَطَأٌ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: أَنَا أَخْتَارُ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ. السَّادِسُ: حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الزَّيَّاتُ، التَّيْمِيُّ، مَوْلَاهُمْ، الْكُوفِيُّ، أَبُو عُمَارَةَ، تُوُفِّيَ بِحُلْوَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. السَّابِعُ: الْكِسَائِيُّ، عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمْ، الْكُوفِيُّ، تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، كَانَ قَرَأَ عَلَى حَمْزَةَ، قَالَ مَكِّيٌّ: " وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالسَّبْعَةِ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ السَّابِعُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ، فَأَثْبَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ نَحْوِهَا الْكِسَائِيَّ فِي مَوْضِعِ يَعْقُوبَ. وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو. قَالَ مَكِّيٌّ: " وَإِنَّمَا كَانُوا سَبْعَةً لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُثْمَانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَتَبَ سَبْعَةَ مَصَاحِفَ، وَوَجَّهَ بِهَا إِلَى الْأَمْصَارِ، فَجَعَلَ عَدَدَ الْقُرَّاءِ عَلَى عَدَدِ الْمَصَاحِفِ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ عَدَدَهُمْ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهِيَ سَبْعَةٌ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ عَدَدَهُمْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ؛ إِذْ عَدَدُ الرُّوَاةِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَقَدْ أَلَّفَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمُقْرِئُ- وَكَانَ قَبْلَ ابْنِ مُجَاهِدٍ- كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ، وَسَمَّاهُ كِتَابَ " الْخَمْسَةِ " ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةً مِنَ الْقُرَّاءِ لَا غَيْرَ، وَأَلَّفَ غَيْرُهُ كِتَابًا وَسَمَّاهُ " الثَّمَانِيَةَ "، وَزَادَ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ ثَلَاثَةً، وَسَمَّاهُ كِتَابَ " الْعَشْرَةِ ". قَالَ مَكِّيٌّ: وَالسَّبَبُ فِي اشْتِهَارِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ أَنَّ عُثْمَانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ، وَوَجَّهَهَا إِلَى الْأَمْصَارِ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَثِيرِي الْعَدَدِ، فَأَرَادَ النَّاسُ أَنْ يَقْتَصِرُوا فِي الْعَصْرِ الرَّابِعِ عَلَى مَا وَافَقَ الْمُصْحَفَ، فَنَظَرُوا إِلَى إِمَامٍ مَشْهُورٍ بِالْفِقْهِ، وَالْأَمَانَةِ فِي النَّقْلِ، وَحُسْنِ الدِّينِ، وَكَمَالِ الْعِلْمِ، قَدْ طَالَ عُمُرُهُ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ مِصْرَ عَلَى عَدَالَتِهِ، فَأَفْرَدُوا مِنْ كُلِّ مِصْرٍ وَجَّهَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ مُصْحَفًا إِمَامًا هَذِهِ صِفَةُ قِرَاءَتِهِ عَلَى مُصْحَفِ ذَلِكَ الْمِصْرِ، فَكَانَ أَبُو عَمْرٍو مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَسَوَادِهَا، وَالْكِسَائِيُّ مِنَ الْعِرَاقِ، وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَابْنُ عَامِرٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَنَافِعٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كُلُّهُمْ مِمَّنِ اشْتُهِرَتْ إِمَامَتُهُمْ، وَطَالَ عُمُرُهُمْ فِي الْإِقْرَاءِ، وَارْتَحَلَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبُلْدَانِ. وَأَوَّلُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ؛ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَابَعَهُ النَّاسُ. وَأَلْحَقُ الْمُحَقِّقُونَ- مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ "- بِهَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ قِرَاءَةَ ثَلَاثَةٍ، وَهُمْ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ قَعْقَاعٍ الْمَدَنِيُّ شَيْخُ نَافِعٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِفُ رَسْمَ السَّبْعِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِ " الْكَافِي " لَهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلِمَ أَدْخَلْتُمْ قِرَاءَةَ أَبِي حَفْصٍ الْمَدَنِيِّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَهُمْ خَارِجُونَ عَنِ السَّبْعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا اتَّبَعْنَا قِرَاءَتَهُمَا كَمَا اتَّبَعْنَا السَّبْعَةَ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا قِرَاءَتَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي وَجَدْنَاهُ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ بَعْدَهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالثِّقَةِ بِهِمَا، وَاتِّصَالِ إِسْنَادِهِمَا، وَانْتِفَاءِ الطَّعْنِ عَنْ رِوَايَتِهِمَا، ثُمَّ إِنَّ الْتَمَسُّكَ بِقِرَاءَةِ سَبْعَةٍ فَقَطْ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تُؤْخَذَ الْقِرَاءَةُ إِذَا اتَّصَلَتْ رِوَايَتُهَا نَقْلًا وَقِرَاءَةً وَلَفْظًا، وَلَمْ يُوجَدْ طَعْنٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمْنَا السَّبْعَةَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ نُقَدِّمُ أَبَا جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ عَلَى غَيْرِهِمَا. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ انْصِرَافُهُ إِلَى قِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ يُولَدُونَ [مِنْ] بَعْدِ عَصْرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُتَعَرِّيًا عَنْ فَائِدَةٍ إِلَى أَنْ يُحْدِثُوا؛ وَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَقْرَءُوا إِلَّا بِمَا عَلِمُوا أَنَّ السَّبْعَةَ مِنَ الْقُرَّاءِ يَخْتَارُونَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَامَّةِ يَتَعَلَّقُونَ بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ الْكَوَاشِيُّ: " كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَاسْتَقَامَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَوَافَقَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، فَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ. فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ قَبُولِ الْقِرَاءَاتِ، عَنْ سَبْعَةٍ كَانَ أَوْ عَنْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَمَتَى فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَاحْكُمْ بِأَنَّهَا شَاذَّةً؛ وَلَا يُقْرَأُ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَاذِّ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ مَا يُذْكَرُ مِنَ الشَّوَاذِّ؛ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى حَسَبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، أَوْ مُرَجِّحًا. وَقَالَ مَكِّيٌّ: " وَقَدِ اخْتَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ اخْتِيَارَاتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَرْفِ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: قُوَّةُ وَجْهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمُوَافَقَتُهُ لِلْمُصْحَفِ، وَاجْتِمَاعُ الْعَامَّةِ عَلَيْهِ. وَالْعَامَّةُ عِنْدَهُمْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ؛ فَذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ تُوجِبُ الِاخْتِيَارَ. وَرُبَّمَا جَعَلُوا الْعَامَّةَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، وَرُبَّمَا جَعَلُوا الِاخْتَيَارَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ؛ فَقِرَاءَةُ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ أَوْلَى الْقِرَاءَاتِ، وَأَصَحُّهَا سَنَدًا، وَأَفْصَحُهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَيَتْلُوهَا فِي الْفَصَاحَةِ خَاصَّةً قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ. وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: " كُلُّ قِرَاءَةٍ سَاعَدَهَا خَطُّ الْمُصْحَفِ مَعَ صِحَّةِ النَّقْلِ فِيهَا وَمَجِيئِهَا عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ مُعْتَبَرَةٌ، فَإِنِ اخْتَلَّ أَحَدُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ أَنَّهَا شَاذَّةٌ وَضَعِيفَةٌ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ صَنَّفَهُ فِي مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ، وَأَمَرَ بِإِلْحَاقِهِ بِكِتَابِ " الْكَشْفِ "، وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِهِ " جَمَالِ الْقُرَّاءِ ". قَالَ أَبُو شَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَقَدْ وَرَدَ إِلَى دِمَشْقَ اسْتِفْتَاءٌ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ عَنِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ: هَلْ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا؟ وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ عَشْرًا، كُلُّ آيَةٍ بِقِرَاءَةِ قَارِئٍ، فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِ عَصْرِنَا؛ مِنْهُمْ شَيْخَا الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حِينَئِذٍ، وَكِلَاهُمَا أَبُو عَمْرٍو وَعُثْمَانُ- يَعْنِي ابْنَ الصَّلَاحِ- وَابْنَ الْحَاجِبِ. " قَالَ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْرُوءُ بِهِ عَلَى تَوَاتُرِ نَقْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرْآنًا، وَاسْتَفَاضَ نَقْلُهُ بِذَلِكَ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ كَهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْيَقِينُ وَالْقَطْعُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ وَتَمَهَّدَ فِي الْأُصُولِ؛ فَمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ مَا عَدَا الْعَشَرَةِ فَمَمْنُوعٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ لَا مَنْعَ كَرَاهَةٍ؛ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ، وَمَمْنُوعٌ مِنْهُ مِمَّنْ عَرَفَ الْمَصَادِرَ وَالْمَعَانِيَ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، وَوَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَقُومَ بِوَاجِبِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَقَلَهَا مَنْ نَقَلَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ لِفَوَائِدَ فِيهَا تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، لَا لِلْقِرَاءَةِ بِهَا؛ هَذَا طَرِيقُ مَنِ اسْتَقَامَ سَبِيلُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مَا نُقِلَ قُرْآنًا مِنْ غَيْرِ تَوَاتُرٍ وَاسْتِفَاضَةٍ مُتَلَقَّاةٍ بِالْقَبُولِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ " الْمُحْتَسِبُ " لِابْنِ جَنِّي وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى عَلَى تَجْوِيزِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُلَ قُرْآنًا فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَصْلًا؛ وَالْمُتَجَرِّئُ عَلَى ذَلِكَ مُتَجَرِّئٌ عَلَى عَظِيمٍ، وَضَالٌّ ضَلَالًا بَعِيدًا، فَيُعَزَّرُ وَيُمْنَعُ بِالْحَبْسِ وَنَحْوِهِ، وَيَجِبُ مَنْعُ الْقَارِئِ بِالشَّوَاذِّ وَتَأْثِيمُهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ فَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِشَرْطِهِ. وَأَمَّا إِذَا شَرَعَ الْقَارِئُ فِي قِرَاءَةٍ فَيَنْبَغِي أَلَّا يَزَالُ يَقْرَأُ بِهَا مَا بَقِيَ لِلْكَلَامِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ. وَمَا خَالَفَ هَذَا فَمِنْهُ جَائِزٌ وَمُمْتَنِعٌ، وَعُذْرُهُ مَانِعٌ مِنْ قِيَامِهِ بِحَقِّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ أَوْ جَاهِلًا، وَإِذَا قَرَأَهَا قَارِئٌ؛ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ عُرِّفَ بِهِ وَأُمِرَ بِتَرْكِهَا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أُدِّبَ بِشَرْطِهِ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ أُدِّبَ عَلَى إِصْرَارِهِ، وَحُبِسَ إِلَى أَنْ يَرْتَدِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَبْدِيلُ (آتَيْنَا) (الْبَقَرَةِ: 53) بِـ " أَعْطَيْنَا " وَ (سَوَّلَتْ) (يُوسُفَ: 18) بِـ " زَيَّنَتْ " وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّوَاذِّ، وَهُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا، وَالتَّأْدِيبُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ أَوْجَبُ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي آيِ الْعُشْرِ الْوَاحِدِ فَالْأَوْلَى أَلَّا يَفْعَلَ. نَعَمْ إِنْ قَرَأَ بِقِرَاءَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ إِحْدَاهُمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأُخْرَى مِثْلَ أَنْ يَقْرَأَ (نَغْفِرْ لَكُمْ) (الْأَعْرَافِ: 161) بِالنُّونِ وَ (خَطِيئَاتُكُمْ) بِالرَّفْعِ، وَمِثْلَ (إِنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا) بِالْكَسْرِ (فَتُذَّكِّرَ) (الْبَقَرَةِ: 282) بِالنَّصْبِ، فَهَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ، وَحُكْمُ الْمَنْعِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ: وَالْمَنْعُ مِنْ هَذَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ [فَلَا] مَنْعَ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ جَائِزٌ، وَالتَّخْيِيرُ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا بِمَا ثَبَتَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ حُرُوفٍ تَوْسِعَةً عَلَى الْقُرَّاءِ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّقَ بِالْمَنْعِ مِنْ هَذَا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ، نَعَمْ أَكْرَهُ تَرْدَادَ الْآيَةِ بِقِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ زَمَانِنَا فِي جَمِيعِ الْقِرَاءاتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ بَلَغَنِي كَرَاهَتُهُ عَنْ بَعْضِ مُتَصَدِّرِي الْمَغَارِبَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ. قُلْتُ: وَمَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخَانِ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَقَالَ: " قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً، وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ فَغَالِطٌ أَوْ جَاهِلٌ، فَلَوْ خَالَفَ وَقَرَأَ بِالشَّاذِّ أُنْكِرَ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ مَنْ قَرَأَ بِالشَّوَاذِّ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالشَّوَاذِّ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ يَقْرَأُ بِهَا ".
أَنَّ حَاصِلَ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ يَرْجِعُ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الِاخْتِلَافُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ أَوْ فِي حَرَكَاتِ بَقَائِهَا بِمَا لَا يُزِيلُهَا عَنْ صُورَتِهَا فِي الْكِتَابِ، وَلَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا نَحْوَ: الْبُخْلِ وَالْبَخَلِ (النِّسَاءِ: 37)، وَمَيْسَرَةٍ، وَمَيْسُرَةٍ (الْبَقَرَةِ: 280)، وَ {مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} (الْمُجَادَلَةِ: 2)،، وَ (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)، وَ (أَطْهَرَ لَكُمْ) (هُودٍ: 78)،) وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكُفُورَ (،،) وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الْكُفُورُ) (سَبَأٍ: 17). الثَّانِي: الِاخْتِلَافُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ فِي حَرَكَاتٍ بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا، وَلَا يُزِيلُهَا عَنْ صُورَتِهَا فِي الْخَطِّ؛ نَحْوَ: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، وَ (رَبَّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) (سَبَأٍ: 19)، وَ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ}، وَ (تَّلَقَّوْنَهُ) (النُّورِ: 15)، وَ، {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}، وَ (بَعْدَ أَمَةٍ) (يُوسُفَ: 45)، وَهُوَ كَثِيرٌ يُقْرَأُ بِهِ؛ لِمَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ، وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ. الثَّالِثُ: الِاخْتِلَافُ فِي تَبْدِيلِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ دُونَ إِعْرَابِهَا بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا، وَلَا يُغَيِّرُ صُورَةَ الْخَطِّ بِهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ؛ نَحْوَ: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا}، وَ (نُنْشِرُهَا) (الْبَقَرَةِ: 259)، وَ {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، وَ (فَزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) (سَبَأٍ: 23)، وَ {يَقُصُّ الْحَقَّ}، وَ (يَقْضِي الْحَقَّ) (الْأَنْعَامِ: 57)، وَهُوَ كَثِيرٌ يُقْرَأُ بِهِ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ وَوَجْهُهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِصُورَةِ الْخَطِّ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ. الرَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُغَيِّرُ صُورَتَهَا فِي الْكِتَابَةِ، وَلَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا نَحْوَ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}، وَ إِلَّا (زَقْيَةً وَاحِدَةً) (يس: 29)، وَ {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}، وَ (كَالصُّوفِ الْمَنْقُوشِ) (الْقَارِعَةِ: 5) فَهَذَا يُقْبَلُ إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ، وَلَا يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ لِمُخَالَفَتِهِ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَبَتَ عَنْ آحَادٍ. الْخَامِسُ: الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُزِيلُ صُورَتَهَا فِي الْخَطِّ، وَيُزِيلُ مَعْنَاهَا نَحْوَ: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} (السَّجْدَةِ: 1 وَ2) فِي مَوْضِعِ {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} (الْبَقَرَةِ: 1 وَ2)، وَ {طَلْحٍ مَنْضُودٍ} (الْوَاقِعَةِ: 29)، وَ (طَلْعٍ مَنْضُودٍ) فَهَذَا لَا يُقْرَأُ بِهِ أَيْضًا لِمُخَالَفَتِهِ الْخَطَّ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَضَادٌّ لِمَا عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ. السَّادِسُ: الِاخْتِلَافُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؛ نَحْوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ الْمَوْتِ: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ) (ق: 19)، وَبِهَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَهَذَا يُقْبَلُ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ، وَلَا يُقْرَأُ بِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ. السَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِي الْحُرُوفِ وَالْكَلِمِ نَحْوَ: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} (يس: 35)، (وَمَا عَمِلَتْ)، وَ (نَعْجَةٌ أُنْثَى) (ص: 23)، وَنَظَائِرِهِ، فَهَذَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ حُكْمًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَيُقْرَأُ مِنْهُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْمَصَاحِفُ فِي إِثْبَاتِهِ وَحَذْفِهِ؛ نَحْوَ: (تَجْرِي تَحْتَهَا) فِي بَرَاءَةَ عِنْدَ رَأْسِ الْمِائَةِ، وَ (مِنْ تَحْتِهَا)، وَ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فِي " الْحَدِيدِ " (الْآيَةَ: 24)، وَ (فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ)، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَصَاحِفُ الَّتِي وَجَّهَ بِهَا عُثْمَانُ إِلَى الْأَمْصَارِ، فَيُقْرَأُ بِهِ إِذَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَلَا يُقْرَأُ مِنْهُ مَا لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الْمَصَاحِفُ، لَا يُزَادُ شَيْءٌ لَمْ يُزَدْ فِيهَا، وَلَا يُنْقَصُ شَيْءٌ لَمْ يُنْقَصْ مِنْهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ": إِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَتَبْيِينُ مَعَانِيهَا؛ وَذَلِكَ كَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ) (الْبَقَرَةِ: 238). وَكَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) (الْمَائِدَةِ: 38). وَمِثْلُ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ) (الْبَقَرَةِ: 226). وَكَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: (وَإِنْ كَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ فَلِكُلِّ) (النِّسَاءِ: 12). وَكَمَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ) (الْبَقَرَةِ: 198). قُلْتُ: وَكَذَا قِرَاءَتُهُ (وَأَيْقَنَ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) (الْقِيَامَةِ: 28)، وَقَالَ: ذَهَبَ الظَّنُّ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: " يُرِيدُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّفْظُ الَّذِي يَصْلُحُ لِلشَّكِّ؛ وَجَاءَ اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ مُصَرِّحٌ بِالْيَقِينِ ". انْتَهَى. وَكَقِرَاءَةِ جَابِرٍ: (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النُّورِ: 33). فَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَمَا شَاكَلَهَا قَدْ صَارَتْ مُفَسِّرَةً لِلْقُرْآنِ، وَقَدْ كَانَ يُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فِي التَّفْسِيرِ فَيُسْتَحْسَنُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ إِذَا رُوِيَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ صَارَ فِي نَفْسِ الْقِرَاءَةِ؟ فَهُوَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَأَقْوَى، فَأَدْنَى مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ مَعْرِفَةُ صِحَّةِ التَّأْوِيلِ، عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْعَامَّةُ فَضْلَهُ، إِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ بِهِمَا وَجْهُ الْقُرْآنِ؛ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (يَقُصُّ الْحَقَّ) (الْأَنْعَامِ: 57)، فَلَمَّا وَجَدْتُهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (يَقْضِي الْحَقَّ) عَلِمْتُ أَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ: يَقْضِي فَقَرَأْتُهَا عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ، وَاعْتُبِرَتْ صِحَّتُهَا بِتِلْكَ الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) (النَّمْلِ: 82) ثُمَّ لَمَّا وَجَدْتُهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ " تُنَبِّئُهُمْ " عَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَ الْقِرَاءَةِ (تُكَلِّمُهُمْ) فِي أَشْبَاهٍ مِنْ هَذَا كَثِيرَةٍ.
فَائِدَةٌ: [مَرْجِعُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ] حَكَى الْجَاحِظُ عَنِ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَقُولُوا: " قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ " ، وَ " قِرَاءَةُ سَالِمٍ "، وَ "قِرَاءَةُ أُبَيٍّ "، وَ " قِرَاءَةُ زَيْدٍ "، بَلْ يُقَالُ: " فُلَانٌ كَانَ يَقْرَأُ كَذَا، وَفُلَانٌ كَانَ يَقْرَأُ بِوَجْهِ كَذَا".
فَائِدَةٌ: [في قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو] قِيلَ: قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَنَافِعٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، رَاجِعَةٌ إِلَى أُبَيٍّ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانٍ، وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ إِلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
فَائِدَةٌ: [فِيمَا يَفْعَلُ الْقَارِئُ إِذَا شَكَّ فِي حَرْفٍ مِنَ الْحُرُوفِ] قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: إِذَا شَكَّ الْقَارِئُ فِي حَرْفٍ هَلْ هُوَ بِالْيَاءِ أَوْ بِالتَّاءِ؟ فَلْيَقْرَأْهُ بِالْيَاءِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُذَكِّرُ، وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ هَلْ هُوَ مَهْمُوزٌ أَوْ غَيْرُ مَهْمُوزٍ؟ فَلْيَتْرُكِ الْهَمْزَ. وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ هَلْ يَكُونُ مَوْصُولًا أَوْ مَقْطُوعًا؟ فَلْيَقْرَأْ بِالْوَصْلِ، وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ هَلْ هُوَ مَمْدُودٌ أَوْ مَقْصُورٌ؟ فَلْيَقْرَأْ بِالْقَصْرِ، وَإِنْ شَكَّ فِي حَرْفٍ هَلْ هُوَ مَفْتُوحٌ أَوْ مَكْسُورٌ؟ فَلْيَقْرَأْ بِالْفَتْحِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَيْرُ لَحْنٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ.
وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ، وَبِهِ تُعْرَفُ جَلَالَةُ الْمَعَانِي وَجَزَالَتُهَا، وَقَدِ اعْتَنَى الْأَئِمَّةُ بِهِ، وَأَفْرَدُوا فِيهِ كُتُبًا مِنْهَا: كِتَابُ " الْحُجَّةِ " لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَكِتَابُ " الْكَشْفِ " لِمَكِّيٍّ، وَكِتَابُ " الْهِدَايَةِ " لِلْمَهْدَوِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهَا قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى فَوَائِدَ. وَقَدْ صَنَّفُوا أَيْضًا فِي تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ الشَّوَاذِّ، وَمِنْ أَحْسَنِهَا كِتَابُ " الْمُحْتَسِبِ " لِابْنِ جِنِّي، وَكِتَابُ أَبِي الْبَقَاءِ وَغَيْرِهِمَا. وَفَائِدَتُهُ كَمَا قَالَ الْكَوَاشِيُّ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى حَسَبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، أَوْ مُرَجِّحًا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تُرَجَّحُ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى تَرْجِيحًا يَكَادُ يُسْقِطُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى، وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا مُتَوَاتِرَةٌ، وَقَدْ حَكَى أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي كِتَابِ " الْيَوَاقِيتِ " عَنْ ثَعْلَبَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ الْإِعْرَابُ فِي الْقُرْآنِ عَنِ السَّبْعَةِ لَمْ أُفَضِّلْ إِعْرَابًا عَلَى إِعْرَابٍ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا خَرَجْتُ إِلَى الْكَلَامِ كَلَامِ النَّاسِ فَضَّلْتُ الْأَقْوَى؛ وَهُوَ حَسَنٌ ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ- وَقَدْ حَكَى اخْتِلَافَهُمْ فِي تَرْجِيحِ (فَكُّ رَقَبَةٍ) (الْبَلَدِ: 13) بِالْمَصْدَرِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ- فَقَالَ: وَالدِّيَانَةُ تَحْظُرُ الطَّعْنَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْجَمَاعَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَأْخُوذَةً إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَهُمَا قِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَقَالَ فِي سُورَةِ " الْمُزَّمِّلِ ": " السَّلَامَةُ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ أَنَّهُ إِذَا صَحَّتِ الْقِرَاءَتَانِ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَلَّا يُقَالَ: أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَأْثَمُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا ". وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: " قَدْ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْقِرَاءَاتِ وَالتَّفَاسِيرِ مِنَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ قِرَاءَةِ: (مَلِكِ)، وَ (مَالِكِ) (الْفَاتِحَةِ: 4) حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُبَالِغُ إِلَى حَدٍّ يَكَادُ يُسْقِطُ وَجْهَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى؛ وَلَيْسَ هَذَا بِمَحْمُودٍ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَاتِّصَافِ الرَّبِّ تَعَالَى بِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى إِنِّي أُصَلِّي بِهَذِهِ فِي رَكْعَةٍ، وَبِهَذِهِ فِي رَكْعَةٍ ". وَقَالَ صَاحِبُ " التَّحْرِيرِ "- وَقَدْ ذَكَرَ التَّوْجِيهَ فِي قِرَاءَةِ: (وَعَدْنَا)، وَ (وَاعَدْنَا) (الْبَقَرَةِ: 51)-: " لَا وَجْهَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَبَعْضٍ فِي مَشْهُورِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْقُرَّاءِ وَالنَّحْوِيِّينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الطَّرِيقِ حَتَّى يَأْتِيَ هَذَا الْقَوْلُ؛ بَلْ مَرْجِعُهُ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ، أَوْ ظُهُورِ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ ". وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْقَارِئَ يَخْتَارُ رِوَايَةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فِي: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) (آلِ عِمْرَانَ: 39) فَقَالَ: أَكْرَهُ التَّأْنِيثَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فِي زَعْمِهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ؛ وَكَذَلِكَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ تَاءٍ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعٌ. وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ إِحْدَاهُمَا الْبَتَّةَ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ مَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُرَادٌ بِهِ الْوَاحِدُ.
وَتَوْجِيهُ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ أَقْوَى فِي الصِّنَاعَةِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَشْهُورَةِ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وُضِعَ فِيهِ كِتَابُ " الْمُحْتَسِبِ " لِأَبِي الْفَتْحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسْتَوْفَ، وَأَوْسَعُ مِنْهُ كِتَابُ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ. وَقَدْ يُسْتَبْشَعُ ظَاهِرُ الشَّاذِّ بَادِيَ الرَّأْيِ فَيَدْفَعُهُ التَّأْوِيلُ، كَقِرَاءَةِ: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعَمُ وَلَا يُطْعِمُ) (الْأَنْعَامِ: 14) عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ لِلْمَفْعُولِ دُونَ الثَّانِي؛ وَتَأْوِيلُ الضَّمِيرِ فِي (وَهُوَ) رَاجِعٌ إِلَى الْوَلِيِّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوَّرَ) (الْحَشْرِ: 24) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالرَّاءِ، عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْبَارِئُ، فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِي بَرَأَ الْمُصَوَّرَ. وَكَقِرَاءَةِ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ) (فَاطِرٍ: 28)، وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ لَا الْخَوْفِ. وَكَقِرَاءَةِ: (فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آلِ عِمْرَانَ: 159) بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى التَّكَلُّمِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَى: فَإِذَا أَرْشَدْتُكَ إِلَيْهِ وَجَعَلْتُكَ تَقْصِدُهُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: (عَلَى اللَّهِ) عَلَى الِالْتِفَاتِ؛ وَإِلَّا لَقَالَ: " فَتَوَكَّلْ عَلَيَّ "، وَقَدْ نُسِبَ الْعَزْمُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ " ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي " وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَقَوْلُهُ: (شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) (آلِ عِمْرَانَ: 18).
|